الجمعة، 15 أكتوبر 2010

لا تقرأ هذا المقال

د. أحمد خالد توفيقـــــــــــفي بداية عهدي بالقراءة كنت أؤمن إيمانًا لا يتزعزع بأن أي حرف مكتوب هو شيء محترم جدير بالقراءة.. كل شيء يجب أن يُقرأ حتى النعي في الصحف، والكتابة على طوابع البريد، وحتى إجابات التلاميذ في أوراق الكراريس التي يُلف فيها الترمس.. أحيانًا تؤتي هذه العادة أكلها؛ كما حكى لي أحد أصدقائي الأطباء النابهين عندما لفّ له البائع البطاطا الساخنة في ورقة كتاب الأحياء للصف الثالث الثانوي.. وجد في هذه الورقة شرحًا مبسطًا بالعربية لعملية نسخ الحمض النووي وحركة الريبوزوم وتخليق البروتين... إلخ. ولم يكن صاحبي من الطلبة المجتهدين أيام الكلية، لذا بدت له هذه المعلومات طازجة تمامًا وهدية من السماء، قرأها بعناية وهو يلتهم البطاطا الساخنة متأوهًا من حرارة البطاطا ومن نشوة المعرفة، وبفضلها وضع قدميه على بداية الطريق الصحيح، وراح يقرأ المراجع الكبرى والدوريات العالمية، حتى صار من أهم الملمّين بعلوم الهندسة الجزيئية والوراثة، وصرنا جميعًا نسأله عن أية ألغاز تقابلنا



لكن هذه ليست القاعدة.. القاعدة هي أنك تقابل الكثير جدًا من الكلام الفارغ.. وعلى المرء أن يتعلم متى يتغلب على تقديسه الخالد للكلمة المطبوعة ويتجاهل الهراء. هناك ناقد كُتُب أمريكي شهير سأله الناس عن سر سرعته في القراءة، فقال: "أنا أؤمن أن الكلام المهم يجب أن يُقرأ بأناة السلحفاة، بينما يجب أن تثب عيناك وثبًا فوق الكلام الفارغ.. الهراء يجب أن يُقرأ بسرعة البرق. ومما يدهشني أن أرى الناس يطالعون الصحف حرفًا حرفًا مضيعين في ذلك عدة ساعات؛ لأنهم لم يتعلموا عادة الوثب فوق الفقرات"ـ
الجزء التالي من المقال ليس فكرتي للأسف، ولكنه فكرة قرأتها منذ زمن سحيق في مجلة (المختار من الريدرز دايجست) لكاتب أمريكي ما، ولم أنسها قط... ليس هذا هو نص المقال الأصلي حرفيًا؛ لأنه ضاع للأبد، لكنها ذات الفكرة من الذاكرة، وأنا أراها تدريبًا ممتازًا على التجاهل الذي نريد أن نتعلّمه
لا تقرأ هذا المقال
الأمر سهل.. في عصر الكمبيوتر لا يقتضي الأمر سوى أن تضغط على زر

أو زر

أو تطفئ الجهاز بالكامل وينتهي الأمر
هلم.. أنا كاتب المقال وأؤكد لك أنك لن تجد علمًا ثمينًا أو منفعة عظيمة أو تتعلم شيئًا جديدًا.. لن تجد كلامًا يبكيك أو يجعل الشَّعر ينتصب على ظهر ساعدك من القشعريرة.. لن تجد ما يثير لديك ذكرى قديمة.. وبالتأكيد لن تجد ما يدفعك للتفكير..هلم.. توقف الآن.. ماذا تحاول أن تعرفه فوق ما عرفت؟
يقولون إن الفضول قتل القط، ومن الواضح أنك قط فضولي كبير.. أنت تخشى أن تترك المقال فيكون فيه شيء مهم يعرفه الآخرون وتجهله أنت
ربما دعابة قوية.. ربما سرّ عن أحد المسئولين.. دعني أؤكد لك أن المقال لن يتضمن هذا على الإطلاق.. هي مجرد كلمات.. كلمات.. كلمات تجدها في كل مكان وعلى الجدران وعلى أبواب دورات المياه وفي ملفات الحكومة.. بالتأكيد ليست مقتطفات من كتاب سماوي، ولم تقتطع من شِعر المتنبي أو شكسبير.. لا تحوي في سطورها نظرية أينشتاين.. بل هي أقل أهمية من فاتورة البقال.. فاتورة البقال لها أثر مهم وخطر، وهي قادرة على جعلك تطلق السباب أو ترتجف أو تصرخ أو تبكي.. لكن كلماتي لا تقدر على ذلك
لقد كتبت خمسمائة كلمة وأنت مصرّ على القراءة.. هذا غريب فعلاً.. أنت إنسان غريب.. كلماتي ليست فاتنة ولا تتمايل مثل مارلين مونرو أو حتى شعبان عبد الرحيم! إنها مفككة وسخيفة وخالية من الحرارة
ما أسهل التوقف عن قراءة كلمات خالية من الحرارة.. هل قرأت هذا الجزء كذلك؟ أنت إنسان مستحيل فعلاً.. فقط ضغطة.. ضغطة على زر الفأرة أو ضغطة على زر الكمبيوتر أو ضغطة على جفنيك.. عندها سوف تنتصر.. تنتصر على الكلمات وعلى الضعف البشري
لا أعرف ما كنت سأفعله لو كنت مكانك، لكنني من يختبر الآخر لذا أشعر أنني الأقوى والأقدر والأذكى.. أنت تعرف كيف كان أستاذك واسع العلم وهو يختبرك.. يبدو لي الأمر سهلاً.. هلم.. مرة واحدة
لم تبقَ إلا بضعة أسطر والفرصة توشك على الضياع من يدك.. عندما ينتهي هذا المقال لن تكون هناك أعذار، وعليك أن تعرف أنك فشلت في اختبارك الأول في تحاشي قراءة الكلام الفارغ
بعد هذا سوف تقرأ المشاكل العاطفية والنعي في الصحف والإعلانات المبوبة والتهاني التي ينشرها المسئولون المنافقون من أجل مسئولين أكثر نفاقًا.. سوف تقرأ كل شيء حتى محاولات أخيك ذي السبعة أعوام الشعرية
لهذا لا يصير كل إنسان ناشرًا.. فقط الناشر هو من يملك القدرة على عدم قراءة باقي المقال.. صحيح أنه يضيع الكثير من الكنوز لكنه يرحم نفسه من هراء أكثر.. وعندما يكتشف فيما بعد أنه أضاع من بين يديه يوسف إدريس أو تشيكوف أو إيزاك أزيموف، فإنه يقنع نفسه بأنه "بناقص كاتب".. الفقرة الأخيرة والإنذار الأخير
لقد انتهيت فعلاً... هأنذا أضعت وقتك في قراءة كلام فارغ لا معنى له، وانهلت عليك باللوم، واتهمتك بالفضول وضعف الإرادة... ثم هأنذا قد انتهيت فماذا استفدت أنت؟؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق