كالعادة تخرج شيرين كل يوم ما بين الساعة السابعة والثامنة مساءً , بعد أن تنهي عمل البيت , تحت وطأة أم مغيبة عن واقع حياة أولادها - وخصوصاً بناتها- , وبين إنشغال والد , كادح , من الصباح وهو واقف في محل الدواجن , الذي يُدر عليه دخلاً لا بأس به , يكفيه بالكاد قوت أولاده الخمسة .
ولأن شيرين - صاحبة الـ 21 ربيعاً- هي الأخت الكبرى , فكان ولا بد ولزاماً عليها , القيام بأعباء البيت , من مسح , وكنس , وطبيخ , وغسيل ملابس على غسالة إيديال متهالكة , قابعة في زاوية البيت , اتخذ من أسفلها العنكبوت بيتاً له , لكنه ليس بواهنٍ وعليها أيضًا الذهاب إلى سوق العاشر لإحضار الخضار - إن كان الأكل اليوم خضار - ؛ وإلا فيمكن استبداله بكشري , أو بصارة , وفي أحسن الأحوال مسقعة .
تنتهي من كل هذا العبء اليومي , ليبدأ يومها في المساء . ولأن محل الإكسسوارات التي تعمل به في شارع صلاح الدين بمصر الجديدة , لا يعمل إلا ليلاً فهى لا تخرج من بيتها قبل السابعة , أو الثامنة ليلاً .
ومحل الإكسسوارات هذا ما هو إلا عبارة عن الناصية المقابلة للكنيسة الإنجيلية القابعة في 18 شارع كليوباترا . هذا هو محل عمل شيرين!! وهي ورزقها- إن كان هذا يسمى رزقاً-.
وفي العادة فهى تروح مجبورة كل يوم مجبورة الخاطر , لأنها قديمة في المكان , قد استطاعت أن تربي زبون... وزبون شيري هنا مش أي زبون .
ولأن كل شئ في مصر كان محدد , وله سعر - قبل عملية الخصخصة- ؛ فكان سعر شيري : عشا+ حاجة سخنة - إذا كنا في الشتاء, أو ساقعة لو كنا في الصيف-,+ 100 جنيه .على أن تنام شيري في بيتها , فهي لا تنام خارج بيتها إلا إذا كان هناك جرد في المحل , أو كان صاحب المحل مسافر , فيريدها أن تقف في المحل من صباحية ربنا , أو في المواسم والأعياد .
وهنا يختلف السعر ... ربما زاد عن المعتاد بساعة هدية , أو نضارة , أو ولاعة , وما فيش مانع من جاكيت أو بنطلون جينز إذا كانت حالة الزبون متدهورة , وجايبة جاز .
شيرين تمارس هذا العمل منذ تخرجها من الفندقية الثانوية , أي منذ ما يقرب من ثلاث سنوات , فبالطبع بدأ يظهر عليها بعد التغييرات الشكلية , في شكل ملابسها , في مكياجها , حتى أنها بدأت تستعمل البرفان التى طالما كانت تحلم به ( ليالي الحلمية) !!!
وذات شتاء قارص , في فبراير 1992 , وبعد أحداث مؤلمة في ميدان التحرير , نتج عنه تحطيم مقهى وادي النيل , أصاب الناس الفزع , والهلع .وكان منهم شيري .
يبدو أنها كانت في مهمة عمل , خارج عن نطاق منطقتها الأصلية - وهذا ما يحدث نادراً- , وفي خوفٍ شديدٍ , ركبت الأوتوبيس متجهة إلى الحي العاشر , حيث بيتها, ولأن الجو كان مكهرب , والكل متجه إلى بيته في فزعٍ ورعب , فقد امتلأت جميع المواصلات , بجميع أفراد الشعب المصري .
وبعينٍ وحشية , ونظرات كلها رغبة واشتياق لمثل هذا الجسم الرشيق , والقوام الملفوف, اخذ خالد يلتهم جسدها بنظراته , ومع اقترابها منه اشتعلت النظرات... وأخذت تشتعل كلما اقتربت... ثم : اتفضلي هنا المكان فاضي .
وجلست بجواره ....صمت , مخيم على الأجواء , لكن قدماه بدأت في اللعب... انتِ نازلة فين ؟
العاشر ؟
فين في العاشر ؟
إيه ؟.. فـ محطة المثلث
والله... أنا كمان نازل المثلث.
............ سكوت
بدا خالد في الاستعداد للنزول... خلاص المحطة قربتْ
إيه.. مش هتنزلي ؟
هي دي المثلث ؟
!!!!
بدا على وجه خالد 100 علامة تعجب واستغراب. وفي نفسه قال : انا مش هنزل غير في آخر الخط .
فاتت المحطة... واللي بعدها... وصلنا لآخر الخط... الكل نزل بما فيهم شيرين .
اضطر طبعا خالد يوقف يراقب شيرين من على بُعد... بدأ يمشي أهو محطتين مش مشكلة .
بس .. بس .. يا .. لو سمحت .
أنا ؟
أيوه .
هي محطة المثلث فاتت ولا إيه ؟
آه... طب بقولك إيه من الآخر كدا ... إيه النظام ؟
بصراحة ... بصراحة... أصل أنا كنت جايه لواحدة صاحبتي... واتكسفت أروح لهم في وقت متأخر زي كدا ..
تمام ... تمام... يا ستي ... اعتبريني صحبتك .
نعم !!
زي ما سمعتي... أنا صحبتك.
هو أنت عايش لوحدك ؟
آه .
طب أوكيه .
وارتسمت على وجه خالد سعادة غامرة ... تفوق سعادة تخرجه من كلية العلوم.
واتجهها إلى العمارة... في خطوات كأنها دبيب النمل... صعدا السلالم...
افتح يا سمسم... اتفضلي البيت بيتك .
لو سمحت الحمام فين ؟
طب نتعشى الأول مش كدا علطول .
الحمام من هنا... اتفضلي
هات لي حاجة البسها من هدومك ..
أجيب إيه... أجيب إيه ؟
خدي الترنج دا..
ياااه ... دا أنت طخين أوي !
طب عن إذنك أدخل أنا بقى الحمام.... إيه دا ... إيه دا : مخدة ....وفوطة!!
إيه دا يا بنتي ؟
في خجل مصحوب بشئ من الحرفنة : دي مخدة بأرفع بيها الهنش شوية, ودي فوطة بكبر بيها صدري .
يا نهار أسود .
دا انتي عصاية متعاصة لحمة .
طب وبتعملي إيه مع الناس ؟
حد دريان بحاجة... أهو يحسس له شوية ... ويريل على نفسه... والهف أنا المعلوم وبالسلامة .
بقولك إيه ؟
تخليني معاك أعيش علطول... وآجي أنام آخر الليل عندك.... بس خلي بالك أنا بنت بنوت !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق